سورة البقرة - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


يتضمن هذا الدرس جانباً من التنظيمات الاجتماعية للمجتمع المسلم الذي كان ينشأ في المدينة نشأته الأولى، كما يتضمن جانباً من العبادات المفروضة.. هذه وتلك مجموعة متجاورة في قطاع واحد من قطاعات السورة. وهذه وتلك مشدودة برباط واحد إلى تقوى الله وخشيته، حيث يتكرر ذكر التقوى في التعقيب على التنظيمات الاجتماعية والتكاليف التعبدية سواء بسواء.. وحيث تجيء كلها عقب آية البر التي استوعبت قواعد التصور الإيماني وقواعد السلوك العملي في نهاية الدرس السابق.
في هذا الدرس حديث عن القصاص في القتلى وتشريعاته. وفيه حديث عن الوصية عند الموت.. ثم حديث عن فريضة الصوم وشعيرة الدعاء وشعيرة الاعتكاف.. وفي النهاية حديث عن التقاضي في الأموال.
وفي التعقيب على القصاص ترد إشارة إلى التقوى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}..
وفي التعقيب على الوصية ترد الإشارة إلى التقوى كذلك: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- أن ترك خيراً- الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين}..
وفي التعقيب على الصيام ترد الإشارة إلى التقوى أيضاً: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}..
ثم ترد نفس الإشارة بعد الحديث عن الاعتكاف في نهاية الحديث عن أحكام الصوم: {تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}..
ولا تبعد التعقيبات القليلة الباقية في الدرس عن معنى التقوى، واستجاشة الحساسية والشعور بالله في القلوب. فتجيء هذه التعقيبات: {ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}.. {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.. {إن الله سميع عليم}.. {إن الله غفور رحيم}..
وهو اطراد يوجه النظر إلى حقيقة هذا الدين.. إنه وحدة لا تتجزأ.. تنظيماته الاجتماعية، وقواعده التشريعية وشعائره التعبدية.. كلها منبثقة من العقيدة فيه؛ وكلها نابعة من التصور الكلي الذي تنشئه هذه العقيدة؛وكلها مشدودة برباط واحد إلى الله؛ وكلها تنتهي إلى غاية واحدة هي العبادة: عبادة الله الواحد. الله الذي خلق، ورزق، واستخلف الناس في هذا الملك، خلافة مشروطة بشرط: أن يؤمنوا به وحده؛ وأن يتوجهوا بالعبادة إليه وحده؛ وأن يستمدوا تصورهم ونظمهم وشرائعهم منه وحده.
وهذا الدرس بمجموعة الموضوعات التي يحتويها، والتعقيبات التي يتضمنها، نموذج واضح لهذا الترابط المطلق في هذا الدين..
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى: الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان. ذلك تخفيف من ربكم ورحمة. فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}..
النداء للذين آمنوا.. بهذه الصفة التي تقتضي التلقي من الله، الذي آمنوا به، في تشريع القصاص.
وهو يناديهم لينبئهم أن الله فرض عليهم شريعة القصاص في القتلى، بالتفصيل الذي جاء في الآية الأولى. وفي الآية الثانية يبين حكمة هذه الشريعة، ويوقظ فيهم التعقل والتدبر لهذه الحكمة، كما يستجيش في قلوبهم شعور التقوى؛ وهو صمام الأمن في مجال القتلى والقصاص.
وهذه الشريعة التي تبينها الآية: أنه عند القصاص للقتلى- في حالة العمد- بقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.
{فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}..
وهذا العفو يكون بقبول الدية من أولياء الدم بدلاً من قتل الجاني. ومتى قبل ولي الدم هذا ورضيه، فيجب إذن أن يطلبه بالمعروف والرضى والمودة. ويجب على القاتل أو وليه أن يؤديه بإحسان وإجمال وإكمال. تحقيقاً لصفاء القلوب، وشفاء لجراح النفوس، وتقوية لأواصر الأخوة بين البقية الأحياء.
وقد امتن الله على الذين آمنوا بشريعة الدية هذه بما فيها من تخفيف ورحمة:
{ذلك تخفيف من ربكم ورحمة}..
ولم يكن هذا التشريع مباحاً لبني إسرائيل في التوراة. إنما شرع للأمة المسلمة استبقاء للأرواح عند التراضي والصفاء.
{فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}..
وفوق العذاب الذي يتوعده به في الآخرة.. يتعين قتله، ولا تقبل منه الدية. لأن الاعتداء بعد التراضي والقبول، نكث للعهد، وإهدار للتراضي، وإثارة للشحناء بعد صفاء القلوب، ومتى قبل ولي الدم الدية، فلا يجوز له أن يعود فينتقم ويعتدي.
ومن ثم ندرك سعة آفاق الإسلام؛ وبصره بحوافز النفس البشرية عند التشريع لها؛ ومعرفته بما فطرت عليه من النوازع.. إن الغضب للدم فطرة وطبيعة. فالإسلام يلبيها بتقرير شريعة القصاص. فالعدل الجازم هو الذي يكسر شرة النفوس، ويفثأ حنق الصدور، ويردع الجاني كذلك عن التمادي، ولكن الإسلام في الوقت ذاته يحبب في العفو، ويفتح له الطريق، ويرسم له الحدود، فتكون الدعوة إليه بعد تقرير القصاص دعوة إلى التسامي في حدود التطوع، لا فرضاً يكبت فطرة الإنسان ويحملها ما لا تطيق.
وتذكر بعض الروايات أن هذه الآية منسوخة. نسختها آية المائدة التي نزلت بعدها وجعلت النفس بالنفس إطلاقاً: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس.. الآية}.. قال ابن كثير في التفسير: وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم. حدثنا أبو زرعة. حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير. حدثني عبد الله بن لهيعة. حدثني عطاء بن دينار. عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}- يعني إذا كان عمداً- الحر بالحر... وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية- قبل الإسلام بقليل. فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا.
فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، والمرأة منا الرجل منهم.. فنزل فيهم: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.. منسوخة نسختها: {النفس بالنفس} وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله: {النفس بالنفس}.
والذي يظهر لنا أن موضع هذه الآية غير موضع آية النفس بالنفس.. وأن لكل منهما مجالاً غير مجال الأخرى. وأن آية النفس بالنفس مجالها مجال الاعتداء الفردي من فرد معين، على فرد معين أو من أفراد معينين على فرد أو أفراد معينين كذلك. فيؤخذ الجاني ما دام القتل عمداً.. فأما الآية التي نحن بصددها فمجالها مجال الاعتداء الجماعي- كحالة ذينك الحيين من العرب- حيث تعتدي أسرة على أسرة، أو قبيلة على قبيلة، أو جماعة على جماعة. فتصيب منها من الأحرار والعبيد والنساء.. فإذا أقيم ميزان القصاص كان الحر من هذه بالحر من تلك، والعبد من هذه بالعبد من تلك، والأنثى من هذه بالأنثى من تلك. وإلا فكيف يكون القصاص في مثل هذه الحالة التي يشترك فيها جماعة في الاعتداء على جماعة؟
وإذا صح هذا النظر لا يكون هناك نسخ لهذه الآية، ولا تعارض في آيات القصاص.
ثم يكمل السياق الحديث عن فريضة القصاص بما يكشف عن حكمتها العميقة وأهدافها الأخيرة:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}..
إنه ليس الانتقام، وليس إرواء الأحقاد. إنما هو أجل من ذلك وأعلى. إنه للحياة، وفي سبيل الحياة، بل هو في ذاته حياة.. ثم إنه للتعقل والتدبر في حكمة الفريضة، ولاستحياء القلوب واستجاشتها لتقوى الله..
والحياة التي في القصاص تنبثق من كف الجناة عن الاعتداء ساعة الابتداء. فالذي يوقن أنه يدفع حياته ثمناً لحياة من يقتل.. جدير به أن يتروى ويفكر ويتردد. كما تنبثق من شفاء صدور أولياء الدم عند وقوع القتل بالفعل. شفائها من الحقد والرغبة في الثأر. الثأر الذي لم يكن يقف عند حد في القبائل العربية حتى لتدوم معاركه المتقطعة أربعين عاما كما في حرب البسوس المعروفة عندهم. وكما نرى نحن في واقع حياتنا اليوم، حيث تسيل الحياة على مذابح الأحقاد العائلية جيلا بعد جيل، ولا تكف عن المسيل..
وفي القصاص حياة على معناها الأشمل الأعم. فالاعتداء على حياة فرد اعتداء على الحياة كلها، واعتداء على كل إنسان حي، يشترك مع القتيل في سمة الحياة. فإذا كف القصاص الجاني عن إزهاق حياة واحدة، فقد كفه عن الاعتداء على الحياة كلها. وكان في هذا الكف حياة. حياة مطلقة. لا حياة فرد ولا حياة أسرة، ولا حياة جماعة.. بل حياة..
ثم- وهو الأهم والعامل المؤثر الأول في حفظ الحياة- استجاشة شعور التدبر لحكمة الله، ولتقواه: {لعلكم تتقون}.
هذا هو الرباط الذي يعقل النفوس عن الاعتداء. الاعتداء بالقتل ابتداء، والاعتداء في الثأر أخيراً.. التقوى.. حساسية القلب وشعروه بالخوف من الله؛ وتحرجه من غضبه وتطلبه لرضاه.
إنه بغير هذا الرباط لا تقوم شريعة، ولا يفلح قانون، ولا يتحرج متحرج، ولا تكفي التنظيمات الخاوية من الروح والحساسية والخوف والطمع في قوة أكبر من قوة الإنسان!
وهذا ما يفسر لنا ندرة عدد الجرائم التي أقيمت فيها الحدود على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء، ومعظمها كان مصحوباً باعتراف الجاني نفسه طائعاً مختاراً.. لقد كانت هنالك التقوى.. كانت هي الحارس اليقظ في داخل الضمائر، وفي حنايا القلوب، تكفها عن مواضع الحدود.. إلى جانب الشريعة النيرة البصيرة بخفايا الفطر ومكنونات القلوب.. وكان هناك ذلك التكامل بين التنظيمات والشرائع من ناحية والتوجيهات والعبادات من ناحية أخرى، تتعاون جميعها على إنشاء مجتمع سليم التصور سليم الشعور. نظيف الحركة نظيف السلوك. لأنها تقيم محكمتها الأولى في داخل الضمير!
حتى إذا جمحت السورة البهيمية في حين من الأحيان، وسقط الإنسان سقطة، وكان ذلك حيث لا تراقبه عين ولا تتناوله يد القانون تحول هذا الإيمان نفساً لوامة عنيفة ووخزاً لاذعاً للضمير وخيالاً مروعاً، لا يرتاح معه صاحبه حتى يعترف بذنبه أمام القانون، ويعرض نفسه للعقوبة الشديدة، ويتحملها مطمئناً مرتاحاً، تفادياً من سخط الله، وعقوبة الآخرة.
إنها التقوى.. إنها التقوى..
ثم يجيء تشريع الوصية عند الموت.. والمناسبة في جوها وجو آيات القصاص حاضرة:
{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت- إن ترك خيراً- الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين. فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه. إن الله سميع عليم. فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه. إن الله غفور رحيم}..
وهذه كذلك كانت فريضة. الوصية للوالدين والأقربين. إن كان سيترك وراءه خيراً. وفسر الخير بأنه الثروة. واختلف في المقدار الذي تجب عنده الوصية. والأرجح أنها مسألة اعتبارية بحسب العرف. فقال بعضهم لا يترك خيراً من يترك أقل من ستين ديناراً، وقيل ثمانين وقيل أربعمائة. وقيل ألف.. والمقدار الذي يعتبر ثروة تستحق الوصية لا شك يختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة.
وقد نزلت آيات المواريث بعد نزول آيات الوصية هذه. وحددت فيها أنصبة معينة للورثة، وجعل الوالدان وارثين في جميع الحالات. ومن ثم لم تعد لهما وصية لأنه لا وصية لوارث. لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث». أما الأقربون فقد بقي النص بالقياس إليهم على عمومه. فمن ورثته آيات الميراث فلا وصية له؛ ومن لم يرث بقي نص الوصية هنا يشمله.
وهذا هو رأي بعض الصحابة والتابعين نأخذ به.
وحكمة الوصية لغير الورثة تتضح في الحالات التي توجب فيها صلة القرابة البر ببعض الأقارب، على حين لا تورثهم آيات الميراث لأن غيرهم يحجبهم. وهي لون من الوان التكافل العائلي العام في خارج حدود الوراثة. ومن ثم ذكر المعروف وذكر التقوى:
{بالمعروف حقاً على المتقين}..
فلا يظلم فيها الورثة، ولا يهمل فيها غير الورثة؛ ويتحرى التقوى في قصد واعتدال، وفي بر وإفضال.. ومع هذا فقد حددت السنة نسبة الوصية، فحصرتها في الثلث لا تتعداه والربع أفضل. كي لا يضار الوارث بغير الوارث. وقام الأمر على التشريع وعلى التقوى، كما هي طبيعة التنظيمات الاجتماعية التي يحققها الإسلام في تناسق وسلام.
فمن سمع الوصية فهو آثم إن بدلها بعد وفاة المورث، وهذا من التبديل بريء:
{فمن بدله بعدما سمعه، فإنما إثمه على الذين يبدلونه. إن الله سميع عليم}..
وهو- سبحانه- الشهيد بما سمع وعلم. الشهيد للمورث فلا يؤاخذ بما فعل من وراءه. والشهيد على من بدل فيؤاخذه بإثم التبديل والتغيير.
إلا حالة واحدة يجوز فيها للوصي أن يبدل من وصية الموصي. ذلك إذا عرف أن الموصي إنما يقصد بوصيته محاباة أحد، أو النكاية بالوريث. فعندئذ لا حرج على من يتولى تنفيذ الوصية أن يعدل فيها بما يتلافى به ذلك الجنف، وهو الحيف، ويرد الأمر إلى العدل والنصف:
{فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه. إن الله غفور رحيم}..
والأمر موكول إلى مغفرة الله ورحمته لهذا ولذاك. ومشدود إلى مراعاة الله في كل حال، فهي الضمان الأخير للعدل والإنصاف.
وهكذا نجد الأمر في الوصية مشدوداً إلى تلك العروة التي شد إليها من قبل أمر القصاص في القتلى. والتي يشد إليها كل أمر في التصور الإيماني وفي المجتمع الإسلامي على السواء.
ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية، وللشهادة على الناس. فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة؛ ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثاراً لما عند الله من الرضى والمتاع.
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات!
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان. ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات- بصفة خاصة- بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة.
مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات وذلك ارتكاناً إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يُفرض عليه وما يوجه إليه. ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري. فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري. أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون، أياماً معدودات، فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين؛ فمن تطوع خيراً فهو خير له؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر. يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}..
إن الله- سبحانه- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع، حتى تقتنع به وتراض عليه.
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة؛ ثم يقرر لهم- بعد ندائهم ذلك النداء- أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}..
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة، طاعة لله، وإيثاراً لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله، ووزنها في ميزانه. فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم. وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها. ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفاً وضيئاً يتجهون إليه عن طريق الصيام.. {لعلكم تتقون}..
ثم يثني بتقرير أن الصوم أيام معدودات، فليس فريضة العمر وتكليف الدهر. ومع هذا فقد أعفي من أدائه المرضى حتى يصحوا، والمسافرون حتى يقيموا، تحقيقاً وتيسيراً:
{أياماً معدودات. فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}.
وظاهر النص في المرض والسفر يطلق ولا يحدد. فأي مرض وأي سفر يسوغ الفطر، على أن يقضي المريض حين يصح والمسافر حين يقيم. وهذا هو الأولى في فهم هذا النص القرآني المطلق، والأقرب إلى المفهوم الإسلامي في رفع الحرج ومنع الضرر. فليست شدة المرض ولا مشقة السفر هي التي يتعلق بها الحكم إنما هي المرض والسفر إطلاقاً، لإرادة اليسر بالناس لا العسر. ونحن لا ندري حكمة الله كلها في تعليقه بمطلق المرض ومطلق السفر؛ فقد تكون هناك اعتبارات أخرى يعلمها الله ويجهلها البشر في المرض والسفر؛ وقد تكون هناك مشقات أخرى لا تظهر للحظتها، أو لا تظهر للتقدير البشري.. وما دام الله لم يكشف عن علة الحكم فنحن لا نتأولها؛ ولكن نطيع النصوص ولو خفيت علينا حكمتها. فوراءها قطعاً حكمة. وليس من الضروري أن نكون نحن ندركها.
يبقى أن القول بهذا يخشى أن يحمل المترخصين على شدة الترخص، وأن تهمل العبادات المفروضة لأدنى سبب. مما جعل الفقهاء يتشددون ويشترطون. ولكن هذا- في اعتقادي- لا يبرر التقييد فيما أطلقه النص. فالدين لا يقود الناس بالسلاسل إلى الطاعات، إنما يقودهم بالتقوى. وغاية هذه العبادة خاصة هي التقوى. والذي يفلت من أداء الفريضة تحت ستار الرخصة لا خير فيه منذ البدء، لأن الغاية الأولى من أداء الفريضة لا تتحقق. وهذا الدين دين الله لا دين الناس. والله أعلم بتكامل هذا الدين، بين مواضع الترخص ومواضع التشدد؛ وقد يكون وراء الرخصة في موضع من المصلحة ما لا يتحقق بدونها. بل لا بد أن يكون الأمر كذلك. ومن ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ المسلمون برخص الله التي رخصها لهم. وإذا حدث أن فسد الناس في جيل من الأجيال فإن إصلاحهم لا يتأتى من طريق التشدد في الأحكام؛ ولكن يتأتى من طريق إصلاح تربيتهم وقلوبهم واستحياء شعور التقوى في أرواحهم. وإذا صح التشدد في أحكام المعاملات عند فساد الناس كعلاج رادع، وسد للذرائع، فإن الأمر في الشعائر التعبدية يختلف، إذ هي حساب بين العبد والرب، لا تتعلق به مصالح العباد تعلقاً مباشراً كأحكام المعاملات التي يراعى فيها الظاهر. والظاهر في العبادات لا يجدي ما لم يقم على تقوى القلوب. وإذا وجدت التقوى لم يتفلت متفلت، ولم يستخدم الرخصة إلا حيث يرتضيها قلبه، ويراها هي الأولى، ويحس أن طاعة الله في أن يأخذ بها في الحالة التي يواجهها، أما تشديد الأحكام جملة في العبادات أو الميل إلى التضييق من إطلاق الرخص التي أطلقتها النصوص، فقد ينشيء حرجاً لبعض المتحرجين. في الوقت الذي لا يجدي كثيراً في تقويم المتفلتين.. والأولى على كل حال أن نأخذ الأمور بالصورة التي أرادها الله في هذا الدين.
فهو أحكم منا وأعلم بما وراء رخصه وعزائمه من مصالح قريبة وبعيدة.. وهذا هو جماع القول في هذا المجال.
بقي أن نثبت هنا بعض ما روي من السنة في حالات متعددة من حالات السفر، في بعضها كان التوجيه إلى الفطر وفي بعضها لم يقع نهي عن الصيام.. وهي بمجموعها تساعد على تصور ما كان عليه السلف الصالح من إدراك للأمر، قبل أن تأخذ الأحكام شكل التقعيد الفقهي على أيدي الفقهاء المتأخرين. وصورة سلوك أولئك السلف- رضوان الله عليهم- أملأ بالحيوية، وألصق بروح هذا الدين وطبيعته، من البحوث الفقهية؛ ومن شأن الحياة معها وفي جوها أن تنشئ في القلب مذاقاً حياً لهذه العقيدة وخصائصها:
1- عن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ» كراع الغميم «فصام الناس. ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس، ثم شرب. فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة. أولئك العصاة» أخرجه مسلم والترمذي.
2- وعن أنس رضي الله عنه- قال «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فمنا الصائم ومنا المفطر. فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذهب المفطرون اليوم بالأجر» أخرجه الشيخان والنسائي.
3- وعن جابر رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى رجلاً قد اجتمع عليه الناس، وقد ظلل عليه. فقال: ما له؟ فقالوا: رجل صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصوم في السفر» أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي.
4- وعن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه «قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، فقال: انتظر الغداء يا أبا أمية. قلت: يا رسول الله إني صائم. قال: إذاً أخبرك عن المسافر. إن الله تعالى وضع عنه الصيام ونصف الصلاة» أخرجه النسائي..
5- وعن رجل من بني عبد الله بن كعب بن مالك اسمه أنس بن مالك. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى وضع شطر الصلاة عن المسافر وأرخص له في الإفطار وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما». أخرجه أصحاب السنن.
6- وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: «سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر. (وكان كثير الصيام) فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وفي رواية أخرى وكان جلداً على الصوم.
7- وعن أنس رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم ومنا المفطر. فلا الصائم يعيب على المفطر ولا المفطر يعيب على الصائم. أخرجه مالك والشيخان وأبو داود.
8- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر؛ وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن رواحة رضي الله عنه.. أخرجه الشيخان وأبو داود.
9- وعن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك- رضي الله عنه في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته، ولبس ثياب سفره، فدعا بطعام فأكل. فقلت له: سنة؟ قال: نعم. ثم ركب.. أخرجه الترمذي.
10- وعن عبيد بن جبير قال كنت مع أبي بصرة الغفاري- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه في سفينة من الفسطاط في رمضان. فدفع فقِّرب غداؤه، فقال: اقترب. قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأكل وأكلت.. أخرجه أبو داود.
11- وعن منصور الكلبي: أن دحية بن خليفة رضي الله عنه خرج من قرية من دمشق إلى قدر قرية عقبة من الفساط، وذلك ثلاثة أميال، في رمضان. فأفطر وأفطر معه ناس كثير. وكره آخرون أن يفطروا. فلما رجع إلى قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أن أراه. إن قوماً رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. اللهم أقبضني إليك.. أخرجه أبو داود..
فهذه الأحاديث في جملتها تشير إلى تقبل رخصة الإفطار في السفر في سماحة ويسر. وترجح الأخذ بها. ولا تشترط وقوع المشقة للأخذ بها كما يشير إلى ذلك الحديثان الأخيران بوجه خاص، وإذا كان الحديث الثامن منها يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ظل مرة صائماً مع المشقة هو وعبد الله بن رواحة، فقد كانت له صلى الله عليه وسلم خصوصيات في العبادة يعفي منها أصحابه. كنهيه لهم عن مواصلة الصوم وهو كان يواصل أحياناً. أي يصل اليوم باليوم بلا فطر.
فلما قالوا له في هذا، قال: «إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني». أخرجه الشيخان وثابت من الحديث الأول أنه أفطر وقال عن الذين لم يفطروا: أولئك العصاة. أولئك العصاة. وهذا الحديث متأخر- في سنة الفتح- فهو أحدث من الأحاديث الأخرى. وأكثر دلالة على الاتجاه المختار..
والصورة التي تنشأ في الحس من مجموع هذه الحالات.. أنه كانت هناك مراعاة لحالات واقعية، تقتضي توجيهاً معيناً كما هو الشأن في الأحاديث التي تروى في الموضوع العام الواحد، ونجد فيها توجيهات متنوعة- فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي وكان يواجه حالات حية. ولم يكن يواجهها بقوالب جامدة!
ولكن الانطباع الأخير في الحس في أمر الصوم في السفر هو استحباب الفطر، دون تقيد بحصول المشقة بالفعل.. أما المرض فلم أجد فيه شيئاً إلا أقوال الفقهاء، والظاهر أنه مطلق في كل ما يثبت له وصف المرض، بلا تحديد في نوعه وقدره ولا خوف شدته، على وجوب القضاء يوماً بيوم في المرض والسفر، من غير موالاة في أيام القضاء على الرأي الأرجح.
وقد استطردت هذا الاستطراد لا لأخوض في خلافات فقهية؛ ولكن لتقرير قاعدة في النظر إلى الشعائر التعبدية، وارتباطها الوثيق بإنشاء حالة شعورية هي الغاية المقدمة منها. وهذه الحالة هي التي تحكم سلوك المتعبد؛ وعليها الاعتماد الأول في تربية ضميره، وحسن أدائه للعبادة وحسن سلوكه في الحياة.. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن نأخذ هذا الدين- كما أراده الله- بتكاليفه كلها، طاعة وتقوى وأن نأخذه جملة بعزائمه ورخصه، متكاملاً متناسقاً في طمأنينة إلى الله، ويقين بحكمته، وشعور بتقواه.
ثم نعود إلى استكمال السياق:
{وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيراً فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}..
وفي أول الأمر كان تكليف الصوم شاقاً على المسلمين- وقد فرض في السنة الثانية من الهجرة قبيل فرض الجهاد- فجعل الله فيه رخصة لمن يستطيع الصوم بجهد- وهو مدلول يطيقونه- فالإطاقة الاحتمال بأقصى جهد- جعل الله هذه الرخصة، وهي الفطر مع إطعام مسكين.. ثم حببهم في التطوع بإطعام المساكين إطلاقاً، إما تطوعاً بغير الفدية، وإما بالإكثار عن حد الفدية، كأن يطعم اثنين أو ثلاثة أو أكثر بكل يوم من أيام الفطر في رمضان: {فمن تطوع خيراً فهو خير له}.. ثم حببهم في اختيار الصوم مع المشقة- في غير سفر ولا مرض-: {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}.. لما في الصوم من خير في هذه الحالة. يبدو منه لنا عنصر تربية الإرادة، وتقوية الاحتمال، وإيثار عبادة الله على الراحة. وكلها عناصر مطلوبة في التربية الإسلامية.
كما يبدو لنا منه ما في الصوم من مزايا صحية- لغير المريض- حتى ولو أحس الصائم بالجهد.
وعلى أية حال فقد كان هذا التوجيه تمهيداً لرفع هذه الرخصة عن الصحيح المقيم وإيجاب الصيام إطلاقاً. كما جاء فيما بعد. وقد بقيت للشيخ الكبير الذي يجهده الصوم، ولا ترجى له حالة يكون فيها قادراً على القضاء.. فأخرج الإمام مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك رضي الله عنه كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي.. وقال ابن عباس: ليست منسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً.. وعن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل، فقال: قال ابن عباس نزلت هذه الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر. فالنسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بالآية الآتية: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه...}.
وتحبيب آخر في أداء هذه الفريضة للصحيح المقيم.. إنها صوم رمضان: الشهر الذي أنزل فيه القرآن- إما بمعنى أن بدء نزوله كان في رمضان، أو أن معظمه نزل في أشهر رمضان- والقرآن هو كتاب هذه الأمة الخالد، الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، فأنشأها هذه النشأة، وبدلها من خوفها أمناً، ومكن لها في الأرض، ووهبها مقوماتها التي صارت بها أمة، ولم تكن من قبل شيئاً. وهي بدون هذه المقومات ليست أمة وليس لها مكان في الأرض ولا ذكر في السماء. فلا أقل من شكر الله على نعمة هذا القرآن بالاستجابة إلى صوم الشهر الذي نزل فيه القرآن:
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.. فمن شهد منكم الشهر فليصمه. ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}..
وهذه هي الآية الموجبة الناسخة لرخصة الإفطار والفدية بالنسبة للصحيح المقيم- فيما عدا الشيخ والشيخة كما أسلفنا:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}..
أي من حضر منكم الشهر غير مسافر. أو من رأى منكم هلال الشهر. والمستيقن من مشاهدة الهلال بأية وسيلة أخرى كالذي يشهده في إيجاب الصوم عليه عدة أيام رمضان.
ولما كان هذا نصاً عاماً فقد عاد ليستثني منه من كان مريضاً أو على سفر:
{ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}..
وتحبيب ثالث في أداء الفريضة، وبيان لرحمة الله في التكليف وفي الرخصة سواء:
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}..
وهذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها. فهي ميسرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد.
سماحة تؤدى معها كل التكاليف وكل الفرائض وكل نشاط الحياة الجادة وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور الدائم برحمة الله وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين.
وقد جعل الصوم للمسافر والمريض في أيام أخر، لكي يتمكن المضطر من إكمال عدة أيام الشهر، فلا يضيع عليه أجرها:
{ولتكملوا العدة}.
والصوم على هذا نعمة تستحق التكبير والشكر:
{ولتكبروا الله على ما هداكم. ولعلكم تشكرون}..
فهذه غاية من غايات الفريضة.. أن يشعر الذين آمنوا بقيمة الهدى الذي يسره الله لهم. وهم يجدون هذا في أنفسهم في فترة الصيام أكثر من كل فترة. وهم مكفوفو القلوب عن التفكير في المعصية، ومكفوفو الجوارح عن إتيانها. وهم شاعرون بالهدى ملموساً محسوساً ليكبروا الله على هذه الهداية، وليشكروه على هذه النعمة. ولتفيء قلوبهم إليه بهذه الطاعة. كما قال لهم في مطلع الحديث عن الصيام: {لعلكم تتقون}..
وهكذا تبدو منة الله في هذا التكليف الذي يبدو شاقّاً على الأبدان والنفوس. وتتجلى الغاية التربوية منه، والإعداد من ورائه للدور العظيم الذي أخرجت هذه الأمة لتؤديه، أداء تحرسه التقوى ورقابة الله وحساسية الضمير.
وقبل أن يمضي السياق في بيان أحكام تفصيلية عن مواعيد الصيام، وحدود المتاع فيه وحدود الإمساك.. نجد لفتة عجيبة إلى أعماق النفس وخفايا السريرة. نجد العوض الكامل الحبيب المرغوب عن مشقة الصوم، والجزاء المعجل على الاستجابة لله.. نجد ذلك العوض وهذا الجزاء في القرب من الله، وفي استجابته للدعاء.. تصوره ألفاظ رفافة شفافة تكاد تنير:
{وإذا سألك عبادي عني، فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان. فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}..
فإني قريب.. أجيب دعوة الداع إذا دعان.. أية رقة؟ وأي انعطاف؟ وأية شفافية؟ وأي إيناس؟ وأين تقع مشقة الصوم ومشقة أي تكليف في ظل هذا الود، وظل هذا القرب، وظل هذا الإيناس؟
وفي كل لفظ في التعبير في الآية كلها تلك النداوة الحبيبة:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب. أجيب دعوة الداع إذا دعان}..
إضافة العباد إليه، والرد المباشر عليهم منه.. لم يقل: فقل لهم: إني قريب.. إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال.. قريب.. ولم يقل أسمع الدعاء.. إنما عجل بإجابة الدعاء: {أجيب دعوة الداع إذا دعان}..
إنها آية عجيبة.. آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضى المطمئن، والثقة واليقين.. ويعيش منها المؤمن في جناب رضيّ، وقربى ندية، وملاذ أمين وقرار مكين.
وفي ظل هذا الأنس الحبيب، وهذا القرب الودود، وهذه الاستجابة الوحية.. يوجه الله عباده إلى الاستجابة له، والإيمان به، لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح.
{فليستجيبوا لي، وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}..
فالثمرة الأخيرة من الاستجابة والإيمان هي لهم كذلك.
وهي الرشد والهدى والصلاح. فالله غني عن العالمين.
والرشد الذي ينشئه الإيمان وتنشئه الاستجابة لله هو الرشد. فالمنهج الإلهي الذي اختاره الله للبشر هو المنهج الوحيد الراشد القاصد؛ وما عداه جاهلية وسفه لا يرضاه راشد، ولا ينتهي إلى رشاد. واستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشدون. وعليهم أن يدعوه ولا يستعجلوه. فهو يقدر الاستجابة في وقتها بتقديره الحكيم.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون- بإسناده- عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبين».
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- بإسناده- عن ابن ثوبان: ورواه عبد الله بن الإمام أحمد- بإسناده- عن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو كف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم».
وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل. يقول دعوت فلم يستجب لي!».
وفي صحيح مسلم: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل قيل: يا رسول الله وما الاستعجال. قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
والصائم أقرب الدعاة استجابة، كما روى الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده- بإسناده- عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة..» فكان عبد الله ابن عمر إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا. وروى ابن ماجه في سننه- بإسناده- عن عبد الله بن عمر كذلك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد» وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين».
ومن ثم جاء ذكر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصيام.
ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام. فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر. وحل الطعام والشراب كذلك، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم؛ فالأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد. تلك حدود الله فلا تقربوها. كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}.
وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره. فإذا صحا بعد نومه من الليل- ولو كان قبل الفجر- لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب. وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاماً عند أهله وقت الإفطار، فغلبه النوم، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل. ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة.. ونزلت هذه الآية نزلت. تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}..
والرفث مقدمات المباشرة، أو المباشرة ذاتها، وكلاهما مقصود هنا ومباح.. ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقاً ونداوة، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة:
{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}..
واللباس ساتر وواق.. وكذلك هذه الصلة بين الزوجين. تستر كلاًّ منهما وتقيه. والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته.. الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم. وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة، ويدثرها بهذا الدثار اللطيف.. في آن..
ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم:
{علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم. فتاب عليكم وعفا عنكم}..
وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها، تتمثل في الهواتف الحبيسة، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته، وقد ورد أن بعضهم أتاه.. وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم.
فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم:
{فالأن باشروهن}..
ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضاً:
{وابتغوا ما كتب الله لكم}..
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء، ومن المتعة بالذرية، ثمرة المباشرة. فكلتاهما من أمر الله، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها. وهي موصولة بالله فهي من عطاياه. ومن ورائها حكمة، ولها في حسابه غاية. فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط.
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما. وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى.. ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها. وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء. المنهج الخارج من يد الخالق. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.
وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها:
{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}..
أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال. وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب. وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول: إنه قبل طلوع الشمس بقليل. وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت.. ربما زيادة في الاحتياط..
قال ابن جرير- بإسناده- عن سمرة بن جندب: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر». ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل، ولكنه الفجر المستطير في الأفق». والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل.. وكان بلال رضي الله عنه يبكر في الأذان لتنبيه النائم، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخراً للإمساك وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال..
ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد. والاعتكاف- بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد. وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة، أو ضرورة الطعام والشراب- يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة. وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر منه.. وهي فترة تجرد لله.
ومن ثم امتنعت فيها المباشرة تحقيقاً لهذا التجرد الكامل، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء، ويخلص فيه القلب من كل شاغل:
{ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}..
سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار.
وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع. كل أمر وكل نهي. كل حركة وكل سكون:
{تلك حدود الله فلا تقربوها}..
والنهي هنا عن القرب.. لتكون هناك منطقة أمان. فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت؛ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة، اعتماداً على أنه يمنع نفسه حين يريد. ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر: {فلا تقربوها}.. والمقصود هو المواقعة لا القرب. ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى:
{كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}..
وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين.
وفي ظل الصوم، والامتناع عن المأكل والمشرب، يرد تحذير من نوع آخر من الأكل: أكل أموال الناس بالباطل: عن طريق التقاضي بشأنها أمام الحكام اعتماداً على المغالطة في القرائن والأسانيد، واللحن بالقول والحجة. حيث يقضي الحاكم بما يظهر له، وتكون الحقيقة غير ما بدا له. ويجيء هذا التحذير عقب ذكر حدود الله، والدعوة إلى تقواه، ليظللها جو الخوف الرادع عن حرمات الله:
{ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}.
ذكر ابن كثير في تفسير الآية: قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بينة، فيجحد المال، ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار. فليحملها أو ليذرها».
وهكذا يتركهم لما يعلمونه من حقيقة دعواهم. فحكم الحاكم لا يحل حراماً، ولا يحرم حلالاً. إنما هو ملزم في الظاهر. وإثمه على المحتال فيه.
وهكذا يربط الأمر في التقاضي وفي المال بتقوى الله. كما ربط في القصاص، وفي الوصية وفي الصيام. فكلها قطاعات متناسقة في جسم المنهج الإلهي المتكامل. وكلها مشدودة إلى تلك العروة التي تربط قطاعات المنهج كله.. ومن ثم يصبح المنهج الإلهي وحدة واحدة. لا تتجزأ ولا تتفرق. ويصبح ترك جانب منه وإعمال جانب، إيماناً ببعض الكتاب وكفراً ببعض.. فهو الكفر في النهاية. والعياذ بالله..


هذا الدرس- كسابقه- استطراد في بيان فرائض هذه الأمة وتكاليفها، ونظم حياتها، وأحكام شريعتها فيما بينها، وشريعتها مع غيرها من الأمم حولها.
ويتضمن هذا الدرس بياناً عن الأهلة- جمع هلال- كما يتضمن تصحيحاً لعادة جاهلية وهي إتيان البيوت من ظهورها بدلاً من أبوابها في مناسبات معينة، ثم بياناً عن أحكام القتال عامة، وأحكام القتال في الأشهر الحرم، وعند المسجد الحرام خاصة. وفي النهاية بياناً لشعائر الحج والعمرة كما أقرها الإسلام وهذبها، وعدل فيها كل ما يمت إلى التصورات الجاهلية.
وهكذا نرى هنا- كما رأينا في الدرس السابق- أحكاماً تتعلق بالتصور والاعتقاد، وأحكاماً تتعلق بالشعائر التعبدية، وأحكاماً تتعلق بالقتال.. كلها تتجمع في نطاق واحد، وكلها يعقب عليها تعقيبات تذكر بالله وتقواه.
في موضوع إتيان البيوت من ظهورها يجيء تعقيب يصحح معنى البر، وأنه ليس في الحركة الظاهرة إنما هو في التقوى: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكنَّ البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون}..
وفي القتال بصفة عامة يوجههم إلى عدم الاعتداء، ويربط هذا بحب الله وكرهه. {إن الله لا يحب المعتدين}..
وفي القتال في الشهر الحرام يعقب بتقوى الله: {واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين}..
وفي الإنفاق يعقب بحب الله للمحسنين: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}..
وفي التعقيب على بعض شعائر الحج يقول: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}..
وفي التعقيب الآخر على بيان مواقيت الحج والنهي عن الرفث فيه والفسوق والجدال يقول: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}..
وحتى في توجيه الناس لذكر الله بعد الحج يجيء التعقيب: {واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}..
وهكذا نجد هذه الأمور المتعددة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، ناشئاً من طبيعة هذا الدين، الذي لا تنفصل فيه الشعائر التعبدية، عن المشاعر القلبية، عن التشريعات التنظيمية، ولا يستقيم إلا بأن يشمل أمور الدنيا وأمور الآخرة، وشؤون القلب وشؤون العلاقات الاجتماعية والدولية، وإلا أن يشرف على الحياة كلها، فيصرفها وفق تصور واحد متكامل، ومنهج واحد متناسق، ونظام واحد شامل، وأداة واحدة هي هذا النظام الخاص الذي يقوم على شريعة الله في كافة الشؤون.
وهناك ظاهرة في هذه السورة تطالعنا منذ هذا القطاع. تطالعنا في صورة مواقف يسأل فيها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم عن شؤون شتى، هي الشؤون التي تصادفهم في حياتهم الجديدة، ويريدون أن يعرفوا كيف يسلكون فيها وفق تصورهم الجديد، ووفق نظامهم الجديد. وعن الظواهر التي تلفت حسهم الذي استيقظ تجاه الكون الذي يعيشون فيه..
فهم يسألون عن الأهلة.
ما شأنها؟ ما بال القمر يبدو هلالاً، ثم يكبر حتى يستدير بدراً، ثم يأخذ في التناقص حتى يرتد هلالاً، ثم يختفي ليظهر هلالاً من جديد؟
ويسألون ماذا ينفقون؟ من أي نوع من مالهم ينفقون؟ وأي قدر وأية نسبة مما يملكون؟
ويسألون عن القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام. هل يجوز؟
ويسألون عن الخمر والميسر ما حكمهما؟ وقد كانوا أهل خمر في الجاهلية وأهل ميسر!
ويسألون عن المحيض؟ وعلاقتهم بنسائهم في فترته. ثم يسألون عن أشياء في أخص علاقاتهم بأزواجهم، وأحيانا تسأل فيها الزوجات أنفسهن.
وقد وردت أسئلة أخرى في موضوعات متنوعة في سور أخرى من القرآن أيضاً..
وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى:
فهي أولاً دليل على تفتح وحيوية ونمو في صور الحياة وعلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقاً وثيقاً؛ فلم يعودوا أولئك الأفراد المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة. إنما عادوا أمة لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه؛ ويهم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته.. وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوره ونظامه وقيادته على السواء.. حالة نمو اجتماعي وفكري وشعوري وإنساني بوجه عام.
وهي ثانياً دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس، مما يجعل كل أحد يتحرج أن يأتي أمراً في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعد لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها؛ ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة.. وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق. عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة. فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيهاً يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم تلقته جديداً مرتبطاً بالتصور الجديد. إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد، كل جزئية في النظام القديم؛ ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد، فتصبح جزءاً منه، داخلاً في كيانه، متناسقاً مع بقية أجزائه.. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها. فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائياً.
والدلالة الثالثة تؤخذ من تاريخ هذه الفترة؛ وقيام اليهود في المدينة والمشركين في مكة بين الحين والحين بمحاولة التشكيك في قيمة النظم الإسلامية، وانتهاز كل فرصة للقيام بحملة مضللة على بعض التصرفات والأحداث- كما وقع في سرية عبد الله بن جحش وما قيل من اشتباكها في قتال مع المشركين في الأشهر الحرم- مما كان يستدعي بروز بعض الاستفهامات والإجابة عليها، بما يقطع الطريق على تلك المحاولات؛ ويسكب الطمأنينة واليقين في قلوب المسلمين.
ومعنى هذه الدلالة أن القرآن كان دائماً في المعركة. سواء تلك المعركة الناشئة في القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام؛ والمعركة الناشئة في الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها الذين يتربصون بها من كل جانب.
هذه المعركة كتلك ما تزال قائمة. فالنفس البشرية هي النفس البشرية؛ وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها.. والقرآن حاضر ولا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة، ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة.. وما لم يستيقن المسلمون من هذه الحقيقة فلا فلاح لهم ولا نجاح!
وأقل ما تنشئه هذه الحقيقة في النفس.. أن تقبل على هذا القرآن بهذا الفهم وهذا الإدراك وهذا التصور. أن تواجهه وهو يتحرك ويعمل وينشئ التصور الجديد، ويقاوم تصورات الجاهلية، ويدفع عن هذه الأمة، ويقيها العثرات. لا كما يواجهه الناس اليوم نغمات حلوة ترتل، وكلاما جميلا يتلى، وينتهي الأمر.. إنه لأمر غير هذا نزل الله القرآن.. لقد نزله لينشئ حياة كاملة، ويحركها، ويقودها إلى شاطئ الأمان بين الأشواك والعثرات، ومشقات الطريق؛ التي تتناثر فيها الشهوات كما تتناثر فيها العقبات. والله المستعان..
والأن نواجه النصوص القرآنية في هذا الدرس بالتفصيل:
{يسألونك عن الأهلة. قل هي مواقيت للناس والحج. وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى. وأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون}..
تقول بعض الروايات: إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ذلك السؤال الذي أسلفناه عن الأهلة: ظهورها ونموها وتناقصها.. ما بالها تصنع هذا؟ وتقول بعض الروايات: إنهم قالوا: يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ وقد يكون هذا السؤال في صيغته الأخيرة أقرب إلى طبيعة الجواب. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
{قل: هي مواقيت للناس والحج}..
مواقيت للناس في حلهم وإحرامهم، وفي صومهم وفطرهم، وفي نكاحهم وطلاقهم وعدتهم، وفي معاملاتهم وتجاراتهم وديونهم.. وفي أمور دينهم وأمور دنياهم على سواء.
وسواء كان هذا الجواب ردا على السؤال الأول أو على السؤال الثاني، فهو في كلتا الحالتين اتجه إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري؛ وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر وكيف تتم وهي داخلة في مدلول السؤال: ما بال القمر يبدو هلالاً... إلخ. كذلك لم يحدثهم عن وظيفة القمر في المجموعة الشمسية أو في توازن حركة الأجرام السماوية. وهي داخلة في مضمون السؤال: لماذا خلق الله الأهلة؟ فما هو الإيحاء الذي ينشئه هذا الاتجاه في الإجابة؟
لقد كان القرآن بصدد إنشاء تصور خاص، ونظام خاص، ومجتمع خاص.
كان بصدد إنشاء أمة جديدة في الأرض، ذات دور خاص في قيادة البشرية، لتنشئ نموذجاً معيناً من المجتمعات غير مسبوق؛ ولتعيش حياة نموذجية خاصة غير مسبوقة؛ ولتقر قواعد هذه الحياة في الأرض؛ وتقود إليها الناس.
والإجابة العلمية عن هذا السؤال ربما كانت تمنح السائلين علماً نظرياً في الفلك؛ إذا هم استطاعوا، بما كان لديهم من معلومات قليلة في ذلك الحين، أن يستوعبوا هذا العلم، ولقد كان ذلك مشكوكا فيه كل الشك، لأن العلم النظري من هذا الطراز في حاجة إلى مقدمات طويلة، كانت تعد بالقياس إلى عقلية العالم كله في ذلك الزمان معضلات.
من هنا عدل عن الإجابة التي لم تتهيأ لها البشرية، ولا تفيدها كثيراً في المهمة الأولى التي جاء القرآن من أجلها. وليس مجالها على أية حال هو القرآن. إذ القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية. ولم يجيء ليكون كتاب علم فلكي أو كيماوي أو طبي.. كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يتلمسوا مخالفاته لهذه العلوم!
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله. إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية. وإن وظيفته أن ينشئ تصوراً عاماً للوجود وارتباطه بخالقه، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه؛ وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته.. ومن بينها طاقته العقلية، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة، وإطلاق المجال لها لتعمل- بالبحث العلمي- في الحدود المتاحة للإنسان- وبالتجريب والتطبيق، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال.
إن مادة القرآن التي يعمل فيها هي الإنسان ذاته: تصوره واعتقاده، ومشاعره ومفهوماته، وسلوكه وأعماله، وروابطه وعلاقاته.. أما العلوم المادية، والإبداع في عالم المادة بشتى وسائله وصنوفه، فهي موكولة إلى عقل الإنسان وتجاربه وكشوفه وفروضه ونظرياته. بما أنها أساس خلافته في الأرض، وبما أنه مهيأ لها بطبيعة تكوينه.. والقرآن يصحح له فطرته كي لا تنحرف ولا تفسد، ويصحح له النظام الذي يعيش فيه كي يسمح له باستخدام طاقاته الموهوبة له؛ ويزوده بالتصور العام لطبيعة الكون وارتباطه بخالقه، وتناسق تكوينه، وطبيعة العلاقة القائمة بين أجزائه- وهو أي الإنسان أحد أجزائه- ثم يدع له أن يعمل في إدراك الجزئيات والانتفاع بها في خلافته.. ولا يعطيه تفصيلات لأن معرفة هذه التفصيلات جزء من عمله الذاتي.
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها.
كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه!
إن القرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها.. لأنه هو الإنسان ذاته الذي يكشف هذه المعلومات وينتفع بها.. والبحث والتجريب والتطبيق من خواص العقل في الإنسان. والقرآن يعالج بناء هذا الإنسان نفسه. بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره. كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام هذه الطاقات المذخورة فيه. وبعد أن يوجد الإنسان السليم التصور والتفكير والشعور، ويوجد المجتمع الذي يسمح له بالنشاط، يتركه القرآن يبحث ويجرب، ويخطئ ويصيب، في مجال العلم والبحث والتجريب. وقد ضمن له موازين التصور والتدبر والتفكير الصحيح.
كذلك لا يجوز أن نعلق الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن أحياناً عن الكون في طريقه لإنشاء التصور الصحيح لطبيعة الوجود وارتباطه بخالقه، وطبيعة التناسق بين أجزائه.. لا يجوز أن نعلق هذه الحقائق النهائية التي يذكرها القرآن، بفروض العقل البشري ونظرياته، ولا حتى بما يسميه حقائق علمية مما ينتهي إليه بطريق التجربة القاطعة في نظره.
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة. أما ما يصل إليه البحث الإنساني- أياً كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة؛ وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها.. فمن الخطأ المنهجي- بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية. وهي كل ما يصل إليه العلم البشري!
هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية.. والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى «علمية». ومن هذه النظريات والفروض كل النظريات الفلكية؛ وكل النظريات الخاصة بنشأة الإنسان وأطواره؛ وكل النظريات الخاصة بنفس الإنسان وسلوكه.. وكل النظريات الخاصة بنشأة المجتمعات وأطوارها.. فهذه كلها ليست حقائق علمية حتى بالقياس الإنساني. وإنما هي نظريات وفروض. كل قيمتها أنها تصلح لتفسير أكبر قدر من الظواهر الكونية أو الحيوية أو النفسية أو الاجتماعية. إلى أن يظهر فرض آخر يفسر قدراً أكبر من الظواهر، أو يفسر تلك الظواهر تفسيراً أدق! ومن ثم فهي قابلة دائماً للتغيير والتعديل والنقص والإضافة؛ بل قابلة لأن تنقلب رأساً على عقب، بظهور أداة كشف جديدة، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة!
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات متجددة متغيرة- أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي. كما أنها تنطوي على معان ثلاثة كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم..
الأولى: هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع. ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم.
أو الاستدلال له من العلم. على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه، ونهائي في حقائقه. والعلم ما يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق، لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة.
والثانية: سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته. وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق- بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي. حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله؛ بل يصادقه ويعرف بعض أسراره، ويستخدم بعض نواميسه في خلافته. نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة!
والثالثة: هي التأويل المستمر- مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر. وكل يوم يجد فيها جديد.
وكل أولئك لا يتفق وجلال القرآن، كما أنه يحتوي على خطأ منهجي كما أسلفنا..
ولكن هذا لا يعني ألا ننتفع بما يكشفه العلم من نظريات- ومن حقائق- عن الكون والحياة والإنسان في فهم القرآن.. كلا! إن هذا ليس هو الذي عنينا بذلك البيان. ولقد قال الله سبحانه: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ومن مقتضى هذه الإشارة أن نظل نتدبر كل ما يكشفه العلم في الآفاق وفي الأنفس من آيات الله. وأن نوسع بما يكشفه مدى المدلولات القرآنية في تصورنا.
فكيف؟ ودون أن نعلق النصوص القرآنية النهائية المطلقة بمدلولات ليست نهائية ولا مطلقة؟ هنا ينفع المثال:
يقول القرآن الكريم مثلاً: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} ثم تكشف الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون.. الأرض بهيئتها هذه وببعد الشمس عنها هذا البعد، وبعد القمر عنها هذا البعد، وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، وبسرعة حركتها هذه، وبميل محورها هذا، وبتكوين سطحها هذا.. وبآلاف من الخصائص.. هي التي تصلح للحياة وتوائمها.. فليس شيء من هذا كله فلتة عارضة ولا مصادفة غير مقصودة.. هذه الملاحظات تفيدنا في توسيع مدلول: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} وتعميقه في تصورنا.. فلا بأس من تتبع مثل هذه الملاحظات لتوسيع هذا المدلول وتعميقه.. وهكذا..
هذا جائز ومطلوب.. ولكن الذي لا يجوز ولا يصح علمياً، هذه الأمثلة الأخرى:
يقول القرآن الكريم: {خلق الإنسان من سلالة من طين} ثم توجد نظرية في النشوء والارتقاء لوالاس ودارون تفترض أن الحياة بدأت خلية واحدة، وأن هذه الخلية نشأت في الماء، وأنها تطورت حتى انتهت إلى خلق الإنسان.. فنحمل نحن هذا النص القرآني ونلهث وراء النظرية. لنقول: هذا هو الذي عناه القرآن!!
لا.
إن هذه النظرية أولاً ليست نهائية. فقد دخل عليها من التعديل في أقل من قرن من الزمان ما يكاد يغيرها نهائياً. وقد ظهر فيها من النقص المبني على معلومات ناقصة عن وحدات الوراثة التي تحتفظ لكل نوع بخصائصه ولا تسمح بانتقال نوع إلى نوع آخر، ما يكاد يبطلها. وهي معرضة غدا للنقض والبطلان.. بينما الحقيقة القرآنية نهائية. وليس من الضروري أن يكون هذا معناها. فهي تثبت فقط أصل نشأة الإنسان ولا تذكر تفصيلات هذه النشأة. وهي نهائية في النقطة التي تستهدفها وهي أصل النشأة الإنسانية.. وكفى.. ولا زيادة..
ويقول القرآن الكريم: {والشمس تجري لمستقر لها} فيثبت حقيقة نهائية عن الشمس وهي أنها تجري.. ويقول العلم: إن الشمس تجري بالنسبة لما حولها من النجوم بسرعة قدرت بنحو 12 ميلاً في الثانية. ولكنها في دورانها مع المجرة التي هي واحدة من نجومها تجري جميعاً بسرعة 170 ميلاً في الثانية.. ولكن هذه الملاحظات الفلكية ليست هي عين مدلول الآية القرآنية. إن هذه تعطينا حقيقة نسبية غير نهائية قابلة للتعديل أو البطلان.. أما الآية القرآنية فتعطينا حقيقة نهائية- في أن الشمس تجري- وكفى فلا نعلق هذه بتلك أبداً.
ويقول القرآن الكريم: {أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} ثم تظهر نظرية تقول: إن الأرض كانت قطعة من الشمس فانفصلت عنها.. فنحمل النص القرآني ونلهث لندرك هذه النظرية العلمية. ونقول هذا ما تعنيه الآية القرآنية!
لا.. ليس هذا هو الذي تعنيه! فهذه نظرية ليست نهائية. وهناك عدة نظريات عن نشأة الأرض في مثل مستواها من ناحية الإثبات العلمي! أما الحقيقة القرآنية فهي نهائية ومطلقة. وهي تحدد فقط أن الأرض فصلت عن السماء.. كيف؟ ما هي السماء التي فصلت عنها؟ هذا ما لا تتعرض له الآية.. ومن ثم لا يجوز أن يقال عن أي فرض من الفروض العلمية في هذا الموضوع: إنه المدلول النهائي المطابق للآية!
وحسبنا هذا الاستطراد بهذه المناسبة، فقد أردنا به إيضاح المنهج الصحيح في الانتفاع بالكشوف العلمية في توسيع مدلول الآيات القرآنية وتعميقها، دون تعليقها بنظرية خاصة أو بحقيقة علمية خاصة تعليق تطابق وتصديق.. وفرق بين هذا وذاك.
ثم نعود إلى النص القرآني:
{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها. ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون}..
والارتباط بين شطري الآية يبدو أنه هو المناسبة بين أن الأهلة هي مواقيت للناس والحج، وبين عادة جاهلية خاصة بالحج هي التي يشير إليها شطر الآية الثاني.. في الصحيحين- بإسناده- عن البراء رضي الله عنه قال: كان الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب البيوت، فجاء رجل منهم فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك.
فنزلت: {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها؛ ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها}..
ورواه أبو داود عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه.. فنزلت هذه الآية.
وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أن هذا هو البر- أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا العمل المتكلف الذي لا يستند إلى أصل، ولا يؤدي إلى شيء. وجاء يصحح التصور الإيماني للبر.. فالبر هو التقوى. هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن. وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان. ولا تعني أكثر من عادة جاهلية.
كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها. وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح:
{وأتوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون}..
وبهذا ربط القلوب بحقيقة إيمانية أصيلة- هي التقوى- وربط هذه الحقيقة برجاء الفلاح المطلق في الدنيا والآخرة؛ وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصيد الإيماني، ووجه المؤمنين إلى إدراك نعمة الله عليهم في الأهلة التي جعلها الله مواقيت للناس والحج.. كل ذلك في آية واحدة قصيرة..
بعد ذلك يجيء بيان عن القتال بصفة عامة، وعن القتال عند المسجد الحرام وفي الأشهر الحرم بصفة خاصة، كما تجيء الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله، وهي مرتبطة بالجهاد كل الارتباط:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم. والفتنة أشد من القتل. ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم، كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله؛ فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص. فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين. وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}..
ورد في بعض الروايات أن هذه الآيات هي أول ما نزل في القتال. نزل قبلها الإذن من الله للمؤمنين الذين يقاتلهم الكفار بأنهم ظلموا. وأحس المؤمنون بأن هذا الإذن هو مقدمة لفرض الجهاد عليهم، وللتمكين لهم في الأرض، كما وعدهم الله في آيات سورة الحج: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً. ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور}
ومن ثم كانوا يعرفون لم أُذن لهم بأنهم ظلموا، وأعطيت لهم إشارة الانتصاف من هذا الظلم، بعد أن كانوا مكفوفين عن دفعه وهم في مكة، وقيل لهم: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} وكان هذا الكف لحكمة قدرها الله.. نستطيع أن نحدس بعض أسبابها على سبيل التقدير البشري الذي لا يحصى ولا يستقصى.
وأول ما نراه من أسباب هذا الكف، أنه كان يراد أولا تطويع نفوس المؤمنين من العرب للصبر امتثالاً للأمر، وخضوعا للقيادة، وانتظاراً للإذن. وقد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم.. وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم الذي نيطت به هذه الأمة يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع.. ومن ثم استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة؛ وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحماسة والتدبر، والحمية والطاعة.. في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم..
والأمر الثاني الذي يلوح لنا من وراء الكف عن القتال في مكة.. هو أن البيئة العربية، كانت بيئة نخوة ونجدة. وقد كان صبر المسلمين على الأذى، وفيهم من يملك رد الصاع صاعين، مما يثير النخوة ويحرك القلوب نحو الإسلام؛ وقد حدث بالفعل عندما أجمعت قريش على مقاطعة بني هاشم في شعب أبي طالب، كي يتخلوا عن حماية الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عندما اشتد الاضطهاد لبني هاشم، ثارت نفوس نجدة ونخوةً، ومزقت الصحيفة التي تعاهدوا فيها على المقاطعة. وانتهى هذا الحصار تحت تأثير هذا الشعور الذي كانت القيادة الإسلامية في مكة تراعيه في خطة الكف عن المقاومة، فيما يبدو لنا من خلال دراسة السيرة كحركة.
ومما يتعلق بهذا الجانب أن القيادة الإسلامية لم تشأ أن تثير حرباً دموية داخل البيوت. فقد كان المسلمون حينذاك فروعاً من البيوت. وكانت هذه البيوت هي التي تؤذي أبناءها وتفتنهم عن دينهم؛ ولم تكن هناك سلطة موحدة هي التي تتولى الإيذاء العام. ولو أذن للمسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم يومذاك، لكان معنى هذا الإذن أن تقوم معركة في كل بيت، وأن يقع دم في كل أسرة.
مما كان يجعل الإسلام- في نظر البيئة العربية- يبدو دعوة تفتت البيوت، وتشعل النار فيها من داخلها.. فأما بعد الهجرة فقد انعزلت الجماعة المسلمة كوحدة مستقلة تواجه سلطة أخرى في مكة، تجند الجيوش وتقود الحملات ضدها.. وهذا وضع متغير عما كان عليه الوضع الفردي في مكة بالنسبة لكل مسلم في داخل أسرته.
هذه بعض الأسباب التي تلوح للنظرة البشرية من وراء الحكمة في كف المسلمين في مكة عن دفع الفتنة والأذى. وقد يضاف إليها أن المسلمين إذ ذاك كانوا قلة، وهم محصورون في مكة، وقد يأتي القتل عليهم لو تعرضوا لقتال المشركين، في صورة جماعة ذات قيادة حربية ظاهرة. فشاء الله أن يكثروا، وأن يتحيزوا في قاعدة آمنة، ثم أذن لهم بعد هذا في القتال..
وعلى أية حال فقد سارت أحكام القتال بعد ذلك متدرجة وفق مقتضيات الحركة الإسلامية في الجزيرة (ثم خارج الجزيرة). وهذه الآيات المبكرة في النزول قد تضمنت بعض الأحكام الموافقة لمقتضيات الموقف في بدء المناجزة بين المعسكرين الأساسيين. معسكر الإسلام ومعسكر الشرك. وهي في الوقت ذاته تمثل بعض الأحكام الثابتة في القتال بوجه عام، ولم تعدل من ناحية المبدأ إلا تعديلاً يسيراً في سورة براءة.
ولعله يحسن أن نقول كلمة مجملة عن الجهاد في الإسلام، تصلح أساساً لتفسير آيات القتال هنا، وفي المواضع القرآنية الأخرى، قبل مواجهة النصوص القرآنية في هذا الموضع بصفة خاصة:
لقد جاءت هذه العقيدة في صورتها الأخيرة التي جاء بها الإسلام؛ لتكون قاعدة للحياة البشرية في الأرض من بعدها، ولتكون منهجاً عاماً للبشرية جميعها؛ ولتقوم الأمة المسلمة بقيادة البشرية في طريق الله وفق هذا المنهج، المنبثق من التصور الكامل الشامل لغاية الوجود كله ولغاية الوجود الإنساني، كما أوضحهما القرآن الكريم، المنزل من عند الله قيادتها إلى هذا الخير الذي لا خير غيره في مناهج الجاهلية جميعاً، ورفعها إلى هذا المستوى الذي لا تبلغه إلا في ظل هذا المنهج، وتمتيعها بهذه النعمة التي لا تعدلها نعمة، والتي تفقد البشرية كل نجاح وكل فلاح حين تحرم منها، ولا يعتدي عليها معتد بأكثر من حرمانها من هذا الخير، والحيلولة بينها وبين ما أراده لها خالقها من الرفعة والنظافة والسعادة والكمال.
ومن ثم كان من حق البشرية أن تبلغ إليها الدعوة إلى هذا المنهج الإلهي الشامل، وألا تقف عقبة أو سلطة في وجه التبليغ بأي حال من الأحوال.
ثم كان من حق البشرية كذلك أن يترك الناس بعد وصول الدعوة إليهم أحراراً في اعتناق هذا الدين؛ لا تصدهم عن اعتناقه عقبة أو سلطة. فإذا أبى فريق منهم أن يعتنقه بعد البيان، لم يكن له أن يصد الدعوة عن المضي في طريقها.
وكان عليه أن يعطي من العهود ما يكفل لها الحرية والاطمئنان؛ وما يضمن للجماعة المسلمة المضي في طريق التبليغ بلا عدوان..
فإذا اعتنقها من هداهم الله إليها كان من حقهم ألا يفتنوا عنها بأي وسيلة من وسائل الفتنة. لا بالأذى ولا بالإغراء. ولا بإقامة أوضاع من شأنها صد الناس عن الهدى وتعويقهم عن الاستجابة. وكان من واجب الجماعة المسلمة أن تدفع عنهم بالقوة من يتعرض لهم بالأذى والفتنة. ضماناً لحرية العقيدة، وكفالة لأمن الذين هداهم الله، وإقراراً لمنهج الله في الحياة، وحماية للبشرية من الحرمان من ذلك الخير العام.
وينشأ عن تلك الحقوق الثلاثة واجب آخر على الجماعة المسلمة؛ وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها. وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله.. لا بمعنى إكراه الناس على الإيمان. ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لا يخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول؛ ولا يخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، وأن يستجيب له، وأن يبقى عليه. وبحيث لا يكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله. بأية وسيلة وبأية أداة.
وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام.
وكان لهذه الأهداف العليا وحدها، غير متلبسة بأي هدف آخر، ولا بأي شارة أخرى.
إنه الجهاد للعقيدة. لحمايتها من الحصار؛ وحمايتها من الفتنة؛ وحماية منهجها وشريعتها في الحياة؛ وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالاعتداء عليها قبل الاعتداء؛ وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لا يخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام، ويقره ويثيب عليه؛ ويعتبر الذين يقتلون فيه شهداء؛ والذين يحتملون أعباءه أولياء.
وهذه الآيات من سورة البقرة في هذا الدرس كانت تواجه وضع الجماعة المسلمة في المدينة مع مشركي قريش الذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم، وآذوهم في دينهم، وفتنوهم في عقيدتهم، وهي- مع هذا- تمثل قاعدة أحكام الجهاد في الإسلام:
وتبدأ الآيات بأمر المسلمين بقتال هؤلاء الذين قاتلوهم وما يزالون يقاتلونهم، وبقتال من يقاتلهم في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دون اعتداء:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}..
وفي أول آية من آيات القتال نجد التحديد الحاسم لهدف القتال، والراية التي تخاض تحتها المعركة في وضوح وجلاء:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}..
إنه القتال لله، لا لأي هدف آخر من الأهداف التي عرفتها البشرية في حروبها الطويلة.
القتال في سبيل الله. لا في سبيل الأمجاد والاستعلاء في الأرض، ولا في سبيل المغانم والمكاسب؛ ولا في سبيل الأسواق والخامات؛ ولا في سبيل تسويد طبقة على طبقة أو جنس على جنس.. إنما هو القتال لتلك الأهداف المحددة التي من أجلها شرع الجهاد في الإسلام، القتال لإعلاء كلمة الله في الأرض، وإقرار منهجه في الحياة، وحماية المؤمنين به أن يفتنوا عن دينهم، أو أن يجرفهم الضلال والفساد، وما عدا هذه فهي حرب غير مشروعة في حكم الإسلام، وليس لمن يخوضها أجر عند الله ولا مقام.
ومع تحديد الهدف، تحديد المدى..
{ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}..
والعدوان يكون بتجاوز المحاربين المعتدين إلى غير المحاربين من الآمنين المسالمين الذين لا يشكلون خطراً على الدعوة الإسلامية ولا على الجماعة المسلمة، كالنساء والأطفال والشيوخ والعباد المنقطعين للعبادة من أهل كل ملة ودين.. كما يكون بتجاوز آداب القتال التي شرعها الإسلام، ووضع بها حداً للشناعات التي عرفتها حروب الجاهليات الغابرة والحاضرة على السواء.. تلك الشناعات التي ينفر منها حس الإسلام، وتأباها تقوى الإسلام.
وهذه طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ووصايا أصحابه، تكشف عن طبيعة هذه الآداب، التي عرفتها البشرية أول مرة على يد الإسلام:
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان». أخرجه مالك والشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه». أخرجه الشيخان.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً (رجلين من قريش) فأحرقوهما بالنار فلما أردنا الخروج قال: كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله تعالى فإن وجدتموهما فاقتلوهما». أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعفّ الناس قِتلهً أهل الإ


في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات كذلك منهجاً للتربية، قائماً على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية، ومساربها الظاهرة والخفية؛ يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر، واضحة الخصائص جاهرة السمات، حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات، أنه يرى ذوات بعينها، تدب في الأرض، وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها، وهو يصيح: هذه هي بعينها التي عناها القرآن!
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر: الأول نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان. الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها. والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره. فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله لم يرجع إلى الحق؛ ولم يحاول إصلاح نفسه؛ بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير.. ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل! والثاني نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله! لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حساباً في سعيه وعمله، لأنه يفنى في الله، ويتوجه بكليته إليه.
وعقب عرض هذين النموذجين نسمع هتافاً بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله، دون ما تردد، ودون ما تلفت، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات، كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها.. ويسمى هذا الاستسلام دخولاً في السلم. فيفتح بهذه الكلمة باباً واسعاً للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة (كما سنفصل هذا عند مواجهة النص القرآني بإذن الله).
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى، وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا.. يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال. ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}..
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس. وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين {الناس فيما اختلفوا فيه}..
ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق؛ ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل. كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها ولا محيص عنها. وكي تقبل عليها راضية النفس، مستقرة الضمير؛ تتوقع نصر الله كلما غام الأفق، وبدا أن الفجر بعيد!
وهكذا نرى أطرافاً من المنهج الرباني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها، تنحو أنحاء منوعة من الإيقاعات المؤثرة، تتخلل التوجيهات والتشريعات التي يتألف من مجموعها ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية.
{ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا، ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. وإذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.. ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد}..
هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم ملامح النفوس، تشي بذاتها بأن مصدر هذا القول المعجز ليس مصدراً بشرياً على الإطلاق. فاللمسات البشرية لا تستوعب- في لمسات سريعة كهذه- أعمق خصائص النماذج الإنسانية، بهذا الوضوح، وبهذا الشمول.
إن كل كلمة أشبه بخط من خطوط الريشة في رسم الملامح وتحديد السمات.. وسرعان ما ينتفض النموذج المرسوم كائناً حياً، مميز الشخصية. حتى لتكاد تشير بأصبعك إليه، وتفرزه من ملايين الأشخاص، وتقول: هذا هو الذي أراد إليه القرآن!.. إنها عملية خلق أشبه بعملية الخلق التي تخرج كل لحظة من يد الباريء في عالم الأحياء!
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس.. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح.. {ويشهد الله على ما في قلبه}.. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيداً للتجرد والإخلاص، وإظهاراً للتقوى وخشية الله.. {وهو ألد الخصام}! تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.
هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره... هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.. حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد:
{وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد}..
وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال.. وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد.. مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح.. {والله لا يحب الفساد}.. ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد.. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس؛ ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر.
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:
{وإذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم. فحسبه جهنم ولبئس المهاد}..
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: {اتق الله}.. تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن {بالإثم}.. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء!
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها.. وتدع هذا النموذج حياً يتحرك. تقول في غير تردد: هذا هو. هذا هو الذي عناه القرآن! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن!
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد.. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة:
{فحسبه جهنم ولبئس المهاد!}..
حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تبقي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم {ولبئس المهاد!} ويا للسخرية القاص

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7